الضريح عالم آخر. مستنقع الجن والعفاريت. هكذا بدا لي ونحن نحط الرحال بفنائه الرحب الفسيح.. فتزامن وصولنا مع مجيء شيوخ إحدى القبائل لترتيب مراسيم الحضرة وذبح الجدي الأسود للولي الصالح . شغلني منظرهم وانخرطت معهم في طقوسهم العجيبة. هاهم الآن يستعدون لذبح الجدي. الرجال يكبرون والنساء يطلقن الزغاريد والأطفال يتصايحون.. يختلط كل هذا، فيصبح ضجيجا عجيبا. الآن يذبحون الجدي. يفصلون رأسه عن جسده . الدم يمتزج بالتراب. كلب يحاول المرور نحو بركة الدم. رجل سمين يرفسه برجله الممتلئة . الكلب يعوي من الألم ويفر ناجيا بنفسه من موت محقق. الجو يتنفس ضغطا من الروائح المختلفة: رائحة الشواء التي امتزجت برائحة عرق النسوة والرجال الذين كانوا يقومون بطقوس الجذبة.
أختي فاطمة تحاول أن تفسح لنا الطريق بمنكبيها. امرأة عجوز يدعونها البوابة تلقي بالبخور على الجمر . الدخان يتصاعد في شكل دوائر ضبابية ويعانق قبة الضريح المزينة بالحرير الأخضر .. تماما كالحرير الذي غطوا به أختي فاطمة عند ولادتها ا.
وفي ركن آخر من الضريح أثار انتباهي منظر فتاة ريفية مكتنزة لحما.. كانت تتمسح بحواشي الصندوق الخشبي حيث يرقد الولي الصالح . ارتفع صوتها ليصبح صراخا أقرب إلى عواء الكلب .. تذكرت كلبنا "جوك"، فهو يفعل نفس الشيء إذا جاع أو ضربه أحد منا. من يدري، لعل زيارته للضريح تخلصه من عوائه الخشن المزعج ؟
رفعت الريفية الغطاء وأدخلت رأسها لفترة طويلة. سمعتها تقول بصوت متقطع تخنقه العبرات:
-" أتعبني الزمن . عشت طول حياتي انتظر فارسا لا وجود له. و قالت الشوافة:" عندي سحور صعيب مدفون في الروضة المنسية. خد حقي من الفاعل . أبطل مفعول هذا السحر، آ سيدي بوشتة الحنين.. "
البوابة تدفع الجمع من الوراء بلا هوادة، لتفسح المجال للشيوخ والغرباء الذين قدموا من مناطق مختلفة من المغرب. تعثرت خطواتي في وحل الخوف والمجهول.. لكن كلام أمي ظل يطفو فوق سطح الأشياء جميعا، أشمه قويا مع روائح البخور والند المكي .. وألمسه في كل الأصوات الآدمية التي تحاول عبثا خرق حجاب السماوات والمثول أمام عرش الرحمان:
-" أيها السيد... قل لربك يعطينا الرزق الكثير."
-" أيها السيد... الصحة والعافية بين يديك."
ينهار صرح الصمت من أساسه وتطير أرواح الملايين بلا جسد.بين رافض لوجوده وبين مستضعف سدت أبواب الأمل في وجهه. اقتربت من الصندوق السحري وأرهفت السمع . شككت في الأمر، لكن مع مرور الوقت بدأت أعي- حسب فهمي بالطبع – أن بركة السيد قد تحضر في أي وقت! وأن الزائر الحقيقي تنسلخ روحه عن جسده المدنس وتطير إلى الأعالي البعيدة ….
انسلخت روحي وسمعت صوتا آتيا من جهة مجهولة يقول:
- " آ الرحالي .. آ الرحالي .. اخلع عنك ثوب الآدميين وحلق بروحك حيث تجد أمك رقية قبل أن تلدك ، وتلقى أباك قبل أن يصبح سكيرا.. سترى نفسك قبل أن تكون مضغة ملتهبة.. قل كل شيء تحسه وتشعربه قبل أن تكون شيئا يذكر. تحدث مع والدتك بصوت الأرواح . قل لها : كيف حصل اللقاء والمخاض والولادة؟؟ واسأل أباك : كيف أصبح عابد خمرة وكأس؟؟
ذاب الجواب وتبخر مع دخان البخور والند والصندل...
" أيها السيد.. أنت ولي نعمتنا "
" أيها السيد.. الصحة والعافية بين يديك"
وجاء دور أمي في آخر طابور الزائرين، فرأيتها تتمسح بحواشي الصندوق العجيب في خشوع تام وترفع الغطاء الأخضر وتخبئ رأسها. لا أدري ماذا كانت تفعل في تلك اللحظة ؟ لكن بعد ذلك لاحظت آثار الدموع في عينيها. نادت علي بدوري وطلبت مني أن أفعل الشيء نفسه. ودون تردد رفعت الغطاء وأخفيت راسي الصغير.
رأيت الولي نائما يشخر. اعتقد انه كان يشخر!؟ كرشه منتفخة كدلاحة ناضجة.. زعق في وجهي بغير حشمة وأمرني أن أسحب رأسي المدور! عملت بنصيحته وتراجعت إلى الوراء وفرائصي ترتعد خوفا.
سمعت أمي تقول من خلفي : " ولدي مظلوم.. ضرباتو عين هجالة. اعطيه الصحة والعقل باش يعود بحال كرانو.. آسيدي بوشتة الحنين."
وفي غفلة من السيد ، شددت قبضتي على قرطاس من الشمع وأخفيته في جيب سروالي . فرحت بهذه الغنيمة وتساءلت: هل يحتاج " سيدي بوشتة" للشمع ؟
قلت مبررا فعلتي:
أنا الذي احتاجه عندما اختفي في الإسطبل واقرأ نصوصا من" اقرأ " لمعلم الأجيال: أحمد بوكماخ . أو سيرة " سيف بن دي يزن" ، وإن كان فهمي لهذه السيرة محدودا وضيقا.. ولكنني كنت أقرأها مع ذلك بلذة غريبة.. ويقوم أبي بشرحها كلما كان في قمة نشوته!..
تساءلت ونحن نبتعد عن الضريح: من هو سيدي بوشتى؟ ومتى يخرج من صندوقه السحري ويلبي طلبات ضيوفه ؟ وفي أي وقت يحدث ذلك؟ ولكن لماذا لا يتكلم معنا الآن ويريح عقولنا الصغيرة من أسئلة لا تكاد تنتهي إلا من حيث تبدأ ؟
اللعنة.. خانني ذكائي مرة أخرى !